المقامةُ السادسةُ والعشرون الشيرازّية الجيميّة
حدّث القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: نزِعْتُ عن مُنازعةِ الجَليس، وقطعْتُ عُنُقَ رؤوس الأماليس، وبرَعتُ بالحمْدِ الحَبيس، مُذْ خَلعتُ لِبَاسَ التلبيس، فما فَتئْتُ أعجُم أعوادَ هذهِ المغارس، وأرجُمُ شَجراتِ المناظرةِ قبلَ الغَارس، وأسعَى بفِطْنَةٍ مُباهيةٍ، وأسبابِ هِمَم غيْرِ ساهيةٍ، حتى خَبَرْتُ نُخَبَ المُحاضر، وحضرتُ مُلَحَ المُناظر، فلما بَهرتْ بُهْرة خِيْرتي، وزَهرت زهره ذخيرتي، واشتهرتْ رُقومُ حَضارتي، وظهرتْ نجومُ مُحاضرتي، طفِقتُ أحاضرُ حَضَارِ وأعالجُ أخلاقَ العَنْس الحِضارِ، لأضمَّ إلى ذلك الضَّرَبِ نُغْبةً غراء، أو ألمَّ إلى ذلك الشَجرِ روضةَ غَضْراء، فلم أزل مدّةَ جَذْب المحرانِ وشدِّ القران، أعانقُ عقائلَ المُرَّان، حتى أنحفني الأمرّان المُرَّان، فلما استوى لديَّ الوَجَارُ والبَسابسُ، والمنارُ والمُنابسُ قادني إلى شيرازَ قائدُ القدرِ الرفيقِ، وصادني إلى صيدِها صائدُ شَرَفِ الأملِ الشفيقِ، فقدمتُها قدومَ نِحريرٍ، وولجتُها ولوج مَنْ ظفرَ بمعدن نضير، فَحينَ نفختُ بضرام الرحلةِ واحتويتُها، وطبختُ بها عَيرانةَ الأشر واشتويْتُها جعلتُ أهبُّ هبوبَ الزَّعْزَع الذاكي، وأشُبُّ شُبوب الضمر المذاكي، ولمّا آن انكِفاءُ المواكبِ، وحان طلوعُ مراكبِ الكواكبِ، ومال كلٌّ إلى سكنِه، وآل كلُّ محترف إلى مسكنِه، رمتْني حبائلُ الانحدارِ، ودهمتني بوادرُ الانكدارِ، وازدحمتْ ركائبُ الأكدارِ، ووحمتْ قتلي قَنابلُ تذكُّرِ الدار، حتى توسّدْتُ الحسامَ، وتمنّيْتُ لانسجام سام السَّيْلِ السامَ، فبينما أنا أفكر في هُجوم المنام، وأنظرُ في احتلاس سنسِن ذاك السّنام، إذ أقبلَ إليّ رَجُلٌ ارتجلتْ وصفه الصفاتُ، وضارعَتْ شِدّةً إعصافهِ الرياحُ العاصفاتُ، يَرْتَعُ في ربيع شبابهِ الزاهي، ويخطر في ميدانِ ميدان شُبوبه المتناهي، فالتفتَ نحوي التفات المريب، ولحظني بعين عقله الأريب، وقالَ لي: أراك مُتَّشحاً بشعار الاستشعار، وعلى صَدْرِ صَدَركَ صدار الاصفرارِ، وسيمياءُ الفضائلِ فائضةً لديْك، وكيمياءُ المكارم متراكمة عليك، فَقُمْ وفَّقَكَ الله إلى موائد مُتْرعةٍ، وعوائد مُمْرعةً وريْعٍ نماؤه مرحٌ، ورَبع فناؤهُ فسيحٌ، وغَمْر يغمَرُ بغَمرهِ المحرومُ، وقَرْم تقرَمُ لِلَثْم وَطْءِ مقرومهِ القُروم، لتشكرَ مَنْ لَهُ حجبْتُ، وإجلال إجلاله رجبتُ، وبمعازفِ معروفه اعتجبتُ، ولَوْ دُعِيْتُ لكُراع لأجبت، قال القاسمُ بن جريالِ: فجَذبني رَسنُ حُسن أوصافه، لا حَسَنُ وصفِ صحافه، وغرائبُ بَريْع هيئاته، لا رغائبُ ربيع هِباتِه، ثم إنِّي نهضتُ أغذو غذوه، وأحذو حذوَهُ، إلى أنْ وصلتُ إلى مرْبعهِ، واتّصلتُ بمشارق مَطْلعه، ولمّا بَرِقْتُ لرَوْقِ رواقه، وعسقت بما عشقت من مخائلِ أخلاقه، وحمدت شِنْشِنَةَ أبنائه، وشمِمْتُ نَشْرَ ألوَّة أبنائه، ألفيتُ أبا نصر المصريّ مِمَّن شَدَّ ظهرَه شِدَّة ذاك الدِعام، وضمَّ شملهْ ضِمامُ ذلك الإنعام، فتمطَّقْتُ لعذوبة إلماعه، ونقطت وجه عروس جَلوةِ اجتماعه، ثم أخذتُ أساله عن رب ذلك الفسطاط بعدَ رفع الدُّعابة والانحطاطِ، وأخبرتُه بما نشرَ حاجِبُهُ من الاشتراطِ، وضمنَ لي حاجبهُ منَ حلاوةِ الاستراط، فقال لي: إنّهُ مِمن يرفعُ عن محيّا الأمل براقعهُ، ويُعطِي خَرْقَ الخَلَقِ راقعهُ، ويوقعُ بُرّ برِّهِ مواقعَهُ، ونحن عندَهُ مقيمون، وعلى قَدَم هذه المِقَةِ قائمون، ما وصمنا مُذ عَصَمنا ولا سئمنا مذ رئمنا، قال: فبينما نحن نرتشفُ شَمولَ المخاطبة، ونلتحف بملاحف المداعبة، إذ دخلَ صاحبُ فنائنا، وجامع أعنائنا، فنهضنا إلى مصافحته، واستلام حجْر راحته، فحينَ رمقني بطرْفه، وصافحَ مطرفي كفّ مُطَرفه، قال لهم: أنَّى لكم هذه المنحةُ، ومن أينَ تسنَّتْ لمجلِسكُم هذه الملحةُ ومن الذي تفوحُ أراييحُ فصاحته، وتلوحُ مصابيحُ صباحته، فقال له أبو نصر: هذا الذي أدهشَ الغرباء، وناقشَ العرب العرْباء، وكَلَمَ المناسمَ، وكلم المباسمَ، واخترعَ المُكوسَ، وارْتضَعَ الكؤوسَ، وهتمَ القائلَ، وهزمَ القبائلَ، وجالس الولاة، وأخرسَ القضاةَ، وأعجزَ الغابرَ، وطرّزَ المنابرَ، وشرّفَ المدارسَ، وأحيا العلم الدارس، وادّرعَ السماحَ، وأعطى من استماح، وجانب الصماحَ، وكافح الرماحَ وماح، قال: فلمّا أفاضَ حياضَ امتداحه لديَّ
وشحَا فَمُ ثنايا الثناء عليَّ، بادرَ إلى استخراج النُخب من غَمامِها، والنكت من كمامها، مترنحاً كالسيلِ الدافقِ. والقيلِ النافق والطَّفَل البارز، والبطل المبارز، حتى أذعَن الأدب لطاعته، وشغف البشرُ بفيض براءته، ولم نزل برهة من الدهور، نسح في زلال المنزل الطَّهور، وتتردَّدَ علينا أباريقُ الولائدِ، وتتولَّدُ من الجماعة والاجتماع اجتماعُ الفوائدِ، وبينما نحن نتقبّلُ أرْيَ قبَلِ المقابلةِ والعضاض ونرتع في رياض ذلك الابيضاض، وتَحترفُ ثمار أنعامه العميم، ونعتكفُ بجامع أجماع تلك الأضاميم، قال لنا: إنَّ لي صاحباً بحُلوانَ، ما أضمرُ مصاحبٌ له السلوانَ، وقد بلغني التحافُه بالإحرام، وإيجافُه مِنَ البيت الحرام، وإنِّي لأحِبُّ أن ينشئ أحدُكم رسالة إليه، تهنئةً بما أنعم الله به عليه، وليعرِّضْ بطولِ جفائِه، وأفول فَلَقٍ وفائه، ومواصلةِ صدوده، ومخالطة طيب فاكهة مفاكهته بدوده، فقلنا لَهُ: دونَك الهونَ الهائلَ، والسحابَ السائلَ، الذي أودع الأدب لُبَّهُ واللَّبانَ، واستلَّ سلسلَ لسانه لسانَ سحبانَ، فالتفتَ إلى أبي نصر وقال له: قد ألقوا إليك زمام التفويض، واعترفوا بفضلِكَ العريض، في هذا التعريض، فقالَ لهُ: أنا وعيشِكَ لمثلِ هذا الإرعادِ، ونشر رُفاتِ هذا المعادِ، لكنَّني مِمَّنْ يخرُفُ لفراخه، ولا يسمَنُ جسدُه من صِماخه، قالَ: فظنَّ أنَّه يشغله لانصلاته أو يسألُه سحَّ مسيلِ صِلاته، فقالَ له: إذا طفحَ نُبوعُكَ، اسهوهبَ بوعُكَ، ومتى هَمَعَ يَنبوعُكَ أفعوعمْت ربوعك، فلما سَمعَ تلويحَهُ، وطمعَ فيما يودِعُهُ رِيْحَهُ، أفشأ الطاعة حميَّةً، وأنشأ رسالةً جيمية، وهي:ا فَمُ ثنايا الثناء عليَّ، بادرَ إلى استخراج النُخب من غَمامِها، والنكت من كمامها، مترنحاً كالسيلِ الدافقِ. والقيلِ النافق والطَّفَل البارز، والبطل المبارز، حتى أذعَن الأدب لطاعته، وشغف البشرُ بفيض براءته، ولم نزل برهة من الدهور، نسح في زلال المنزل الطَّهور، وتتردَّدَ علينا أباريقُ الولائدِ، وتتولَّدُ من الجماعة والاجتماع اجتماعُ الفوائدِ، وبينما نحن نتقبّلُ أرْيَ قبَلِ المقابلةِ والعضاض ونرتع في رياض ذلك الابيضاض، وتَحترفُ ثمار أنعامه العميم، ونعتكفُ بجامع أجماع تلك الأضاميم، قال لنا: إنَّ لي صاحباً بحُلوانَ، ما أضمرُ مصاحبٌ له السلوانَ، وقد بلغني التحافُه بالإحرام، وإيجافُه مِنَ البيت الحرام، وإنِّي لأحِبُّ أن ينشئ أحدُكم رسالة إليه، تهنئةً بما أنعم الله به عليه، وليعرِّضْ بطولِ جفائِه، وأفول فَلَقٍ وفائه، ومواصلةِ صدوده، ومخالطة طيب فاكهة مفاكهته بدوده، فقلنا لَهُ: دونَك الهونَ الهائلَ، والسحابَ السائلَ، الذي أودع الأدب لُبَّهُ واللَّبانَ، واستلَّ سلسلَ لسانه لسانَ سحبانَ، فالتفتَ إلى أبي نصر وقال له: قد ألقوا إليك زمام التفويض، واعترفوا بفضلِكَ العريض، في هذا التعريض، فقالَ لهُ: أنا وعيشِكَ لمثلِ هذا الإرعادِ، ونشر رُفاتِ هذا المعادِ، لكنَّني مِمَّنْ يخرُفُ لفراخه، ولا يسمَنُ جسدُه من صِماخه، قالَ: فظنَّ أنَّه يشغله لانصلاته أو يسألُه سحَّ مسيلِ صِلاته، فقالَ له: إذا طفحَ نُبوعُكَ، اسهوهبَ بوعُكَ، ومتى هَمَعَ يَنبوعُكَ أفعوعمْت ربوعك، فلما سَمعَ تلويحَهُ، وطمعَ فيما يودِعُهُ رِيْحَهُ، أفشأ الطاعة حميَّةً، وأنشأ رسالةً جيمية، وهي: جُدِّدَ جلالُ المجلس الجليلِ. الأجلِّ الجميلِ، الشَّجاع الأمجدِ، الجحجاح الأجودِ، الجَسودِ المرتَجى، الماجد المجتَبى، الأجدلِ الأمجديِّ، المجّدِ المجديّ، جمالِ الأمجادِ، جوادِ الأجوادِ، جنان المجتدين، جَنانَ المنجدينَ، جُنّةً الجناة جنَّة الجفاة، وجلَّت جلالتُه جَهالةَ الجُهلاءِ، وتجمّلَتِ بِجِدْواهُ مجالسُ النجباءِ، ورجَمَ بنجوَم اجتهادهَ جن تهجده الجموم، وجزم بجراز محجتهِ جؤجؤ الجاهل الجزوم، وتوج الحجيج بتاج حجته، وسرج للمستنجدين سراج حجته، وجمل بجمل أجر حَجِّهِ، وأجزلَ لجنابه نجاحَ عَجِّهِ وثَجِّه الطويل:
جوادُ جلا جوناً جلالةُ جُوده ... جَرِيّ جَليٌّ جاذمٌ وجده وَجْدا
جرى بجياد النّجح جَرْياً ليجتني ... جَنى جُمَلِ التمجيدِ واستجملَ المجدا
تجللِّ بالإجلال والحِجر والحجى ... وعاجَ لجمع المجد واستعجل المُجْدَى
وعج ضجيجاً بالحمار فتوجتْ ... جباحَجون الحجْر واستجودَ الأجدَى
جبرُكَ المجبوذُ بجريرِ جُودك العجيلِ، وجَوْدِكَ المبجَّلِ التحجيلِ، ولجام جُمانِكَ العجيبِ، وانسجام مرْجانِكَ النَّجيبِ، ينتجعُ مجاني اجتماعك، وينتهجُ منهجَ الترجي لجلائل أَسجاعِكَ، راج مجاورةَ وجارك البهيج، مُتَبَجِحٌ بِيَلنجج نِجارك الأريج، متجلِّل عجلزَةَ انزعاجهِ الجارح، متجملٌ بعجائب إعجازكَ الراجح، جَدّلَهُ جَحْفَلُ حُجَجكَ، وجَلَّلهُ جَلَلُ لجج لَجَجِكَ وأجهدهُ معاجلةُ جموح جنابك، وأضجَرهُ معالجةُ جوَى جَنَف اجتنابكَ، يتجلببُ بعجاج الانزعاج، ويتجرَّعُ جمَّ أجاج المجاج، ويُراجعُ زوجاتِ الاجتياح، ويُضاجعُ مزدوجاتِ جزْمِكَ المُجتاح، ويمجّ لُجِّيَّ جزَعه الجانح، وتَضِجّ لجيوش جَذْمِكَ جوارحُ الجوانح، وتموجُ هُوجُ وَجَله وتهيجُ، وتعوجُ عُوجُ ضَجَره والعَناجيجُ الطويل:
وضرَّجَهُ جُرْحا أجاج وجفْوةٍ ... وأجَّجَهُ جَمْرا جُناح وناجس
وأزعجه جانا اجتنابِ وجولة ... وأعجزهُ جَيْشا جُنونِ وراجسَ
فتجنّب مجالسةَ التجافي، وجُدْ برجوع جَنانكَ الجافي، جُزيتَ برَجم جَمَراتِكَ جزاء جزيلا، وأمجَدَ موجِدُكَ لمجدك جِدًّاً عجيلاً، وجَدًّاً وجيلا، قال الراوي: فحينَ عَرَضَ عروضَ ما استعرضَهُ ووافقتِ الرسالةُ غَرضَهُ، أثنى عليه ثناءَ الزَّهَرِ على الوابلِ، والبلابلِ على تغريد البلابلِ، ثم وعَزَ له بحُلَّةٍ وسيمةٍ، وصرّةٍ جسيمة، فلمّا ربضَ مكانَهُ، وتحقَّقَ إمكانَهُ، وفارقَ إملاقَهُ، وعاقرَ من لاقَهُ، قالَ لي: قدْ عَزَمتُ مذ نجح فالي، بأن أتحف بهذا اللفاء إفالي، فهلْ لكَ في أنْ تساعدني لطلب رفقةٍ تَحْملُها لهم، قبلَ أن يحسَّهم حُسامُ المسغبة ويستأصلهم، ثم نرجعُ إليهم كلموع البارق الباهر عليهم، فقلتُ لَهُ: أتمكرُ بي حينَ واتتْكَ الوعودُ ووافاكَ الصعود، وقد علمْتُ أنَّكَ لا تعودُ، أو يُورقَ بعدَ اقتضابهِ العُودُ، فأطرقَ نحوي وأزبدَ، وأشرق شَرْق قَلقهِ وأنشد: السريع:
أوصيكَ إذْ تعرفُني ناصِحاً ... لن أطْغِيَ الخِلَّ ولن أهلكا
لا تطلِ المكْثَ كثيراً ولو ... في منزلي يُمْلأ مِنْ أهلِكا
لذا تراني لم أزلْ سالماً ... لن أخسر الدهرَ ولن أهلكا
ثم إنَّه أقلع عن الاعتنان، وأشرعَ شباسنانِ الاستنانِ، بعدَ أن شدا لشد نيته وارتدَى برداءِ خسيس نيَّتِهِ، وخلَّفني بعدَ قُفولهِ وسرعةِ جُفوله، كمقترٍ عطف بعد حُفوله على التقام قشورِ فولهِ.
المقامةُ السابعة والعشرونَ الكوفيّةَ
أخبرَ القاسمُ بنُ جريالِ، قال: قرمتُ إلى مناهزةِ الابتهاج، أيامَ ضيقِ الانتهاج، وسئمتُ مرارةَ العلاج، أيانَ انزعاج المزاج، وكنتُ حينئذٍ ضئيلَ النياطِ، جزيلَ الاحتياطِ، ألِجُ من شدّةِ العِياطِ، في سم الخياطِ، فلم أزل أنْغِضُ لمباينةِ الغَرَض، وأستعرضُ عساكرَ العَرَض، وأتسلَّى بالحَرَض، وأحتملُ ثقلَ مضض الجرض، حتى آل بي إلى الانتصابِ، وجرَّعَني عُصارةَ ذلكَ الصَّاب، فلّما جاوزْتُ البحارينَ، وأعجزت بتَفَلِ العرقِ مسكَ دارينَ، واستجثتُ المعين، وبلغتُ في العددِ الأربعينَ، كرهتُ محادثةَ الملازم، كراهيةَ تقدّم الكسرةِ على الضم اللازم، ولمّا مِلْتُ لإصلاح ما جنيتُهُ، وقَدِمتُ إلى ما اقتنيتهُ فأفنيتُهُ، لعلمي أن مَنْ تخَلَّفَ عن مُعْسِرٍ حَسَرَهُ، ومن خلَّف مالاً لغَيْرهِ خَسَرهُ، وكنتُ حين شُبوب هذا الهُبوب وشِدةِ الهُوب، ذلكَ الشؤبوبِ، معمورَ الفِناءِ، عاكفاً بالكوفة الحسناءَ التي تُخْطبُ لجمالِها، وتسجُدُ جباهُ وجوهِ الأجلَّةِ لإحلالِها، فبينما أنا أجانب الرجالَ، وأكافحُ بذلكَ المجالِ الأوجالَ، إذ ولجَ ممِّرض المُجابُ، ومَنْ رُفِعَ لهُ دونَ الحَجْبَةِ الحِجابُ، وبيدهِ فِلْذَةُ جُزازةٍ، تُبرئ منْ به حرارهُ حَزازةٍ، وقالَ لي: إنَّ شيخاً من جُملةِ مَنْ غُمرَ بسيْلِكَ، وعُمرَ مَرْبعُهُ بنَيْلِكَ، دَفَعها إلي، وقالَ: مُرْ مريضَكَ، ومَنِ ارتضى لمرضهِ تمريضَكَ، بأنْ يُعَلِّقها على عاتقهِ اليمينِ، متوِّسلاً بالغُرِّ الميامين، فإنّهُ متى غفا، عاد من ربع عافيته ما عفَا، قال: فصبوتُ لقَوْله، واعتمدْت على قوة الله وحوله، ولما أقبلتْ قبائلُ الاضجاع، واَستقَبلتْ يدُ المَحْمدةِ حَلاوةَ ذلك الانتجاع، واسترحتُ من مكافحةِ الأحلام، ألفيتُ قد أجفلَتْ قنابلُ الآلام، فحمِدْتُ اللهَ على غَورْ ماءِ ذاكَ السِّقَام، وغؤورِ عيونِ انتقام ذلكَ السَّقام، ثمُّ إنِّي فَضَضْتُ الرّقعةَ فضَّ المخالس، لأنظر سِرَّ برئها المُحالس، فإذا فيها: يا منْ تَوَى لهيبتهِ الملوكُ، واستوى في حِمامهِ المالكُ والمملوكُ، وقَصرَ قَيْصرَ لتقصيره، وكَسرَ كسْرَى مَعْ عِظَم كسيره، ونكَّسَ رؤوسَ الوجوه الباسرةِ وأركس قِمَمَ القُيولِ الناسرةِ، وثَّمرَ أعمالَ عبدّائهِ المُقسطينَ، ونضرَ عمال أعدائهِ القاسطينَ، وأترعَ حِياضَ أفضاله للغارفينَ، وأوقدَ مِصباحَ مَعْرفتهِ في قُلوبِ العارفينَ، أسألُكَ بكتابكَ المتين، ومحمد الطاهر الوتينِ، أن تَحْرُسَ حاملَ المَسْطورِ بالذارياتِ والطُّورَ، وأنْ تُخْرِسَ لسانَ ضَرَرِ أعضائهِ البُور، بالوَحْي المزبورِ، وأنْ تكفَّ هَوْلَكَ عن أكفِّ مِنَنِهِ، وتَحُفَّ حولَكَ حوْلَ أمْنهِ ومأمنهِ، واَرَزْقهُ الصَّبْرَ عندَ نزولِ مَتربتهِ، ولا تُذِقْهُ الصَّبِرَ حال حلول تُربتهِ، وثَقِّفْ لَهُ صِعادَ الإصعادِ، وهَدِّفْ لهممهِ سُعادَ الإسعادِ، وأغنهِ عن الأساةِ، وَأعِنْهُ على سلوكِ سَنَنِ المواساةِ، واحم حوزَتهُ عن البُغاةِ والطُّغاةِ، وارم مَنْ رَماه بالعُدَاةِ والمُعانَداتِ، ولا تسلِّطُهُ على فَك فِدامهِ لإعدامهِ، وأسَعدِهُ على رسُوخ أقدامهِ يومَ اصطدامهِ، واسْبُرْ سيَرَ تهتانه لا بُهتانهِ، واستُرْ محاسنَ حِسانهِ لا إحسانهِ واَرفعْ سَقَمَ سويدائهِ، وادفع عنهُ شَررَ أعدائه، ودَائه برحمةٍ منكَ يا أرحمَ الراحمينَ، وأكرمَ المتكرمّينَ، قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فلّما وقفتُ على دُعائهِ المُستجابِ، وَعَرَفْتُ يَقَقَ ذلكَ التِّجابِ، قُلْتُ للأعبُدِ: عليكم بكَشْفِ نِقْبَتهِ، ولو باستكمالِ حقبته، فمَنْ أمعَنَ في رِقبته، أنعمَ اللهُ بحَلِّ رقبته، فحينَ مثلَ لديَّ، وأقبل مسلِّماً عليَّ، ألفيتهُ المصريَّ، شيخَ الأعاجيبِ، وسُبَحَ أنامِل المَكْرِ المُجيبِ فقمت إلى لقائهِ، لأتُبعَ شِناقَ قِرْبَةِ قُربهُ بِسقائهِ، ولمّا سَمحْتُ لَهُ بالمَكفورِ والنابت، وفديتهُ بالغصونِ والمنابتِ، قلتُ لَهُ: قد بَرِئْتُ بحمدِ اللهِ من سَقَمي، وأحضرتُك لتحِلةِ قَسَمى، ولأجازيَك بما يملأ بوحكَ، ويُصلح صبوحَكَ، ثم إنِّي استوصيته بعد أنْ كنت عَقَقْتْهُ وعصيْتهُ، فقالَ لي: عليكَ بالتأسِّي ولو نَابكَ رَثْمُ، وإياكَ وسوء الظن إن بعض الظن إثم، وصف نضار ظنك ببوطة الخلاص، واعلم أنك ستعرض يوم القصاص للاقتصاص، فقلت له: وأنت فيجب أن تتجنب موارد الانتقاص وتقلع عن مصايد الاقتناص، فقال لي: كم لام قبلك فما عبأت بالكل، ومن احتمل الوابلَ لا يكترثُ بالطَّلِ، وهِرٌّ تعوَّدَ رَشْفَ سُلافةِ الحَل، لا يأكل البصلَ بالخلِّ، ثم إنَّهُ نشرَ طُرْفَ ربيع، نيسانِه، وطَوى طَرَفَ رفيع طَيْلَسانهِ، وأنشدَ: الراجز:
دَعِ الملامَ واحسِمِواقطع آذاكَ واجزمفليس يُدْمي مَنْ رُمي
بلومِكَ المُذَمَّمَ
كم لائمً رفضتُهُوجازم خفضتهُوصائمٍ ركضتهُ
إلى النًّوالِ المُسْجَمِ
وكم جَزَمْتُ عِفَّةوكم نصبتُ كِفَّةًوكم خفضتُ خِفّةً
خوف الخبيثِ المُجرم
وكَمْ تلوتُ السُّوراوكَمْ علوتُ المِنْبَراوكم جلَوْتُ الدُّرَرا
على النَّدِىِّ المُفْعَم
وكم خَلَبْتُ خلَّةًوكم حلبتُ حِلَةًوكم جلبتُ جِلَّةً
برُمحِىَ المُقَوَّمَ
وكَمْ حضرت نادياًوكَمْ خَصَرْتُ بادياًوكم حضرت وادياً
بطِرفيَ المُطًهّم
وكم فلاةٍ جُبْتُهاوكَمْ صِلات جُزتُهاوكم صَلاَةٍ قُمتُها
لنَصْبِيَ المتمَّم
وكم فتحتُ مَربْعاًوكمْ سددْت مَرتَعاًوكم شددْتُ ما ارتعا
لغدريَ الغَشَمْشَم
وكم سرقتُ مَنْ سرىوكَمْ شَرَقْتُ في اَلسُّرىوكَمْ رَشَقْتُ مَنْ برىَ
رَبُّ الوَرَى بأسْهُمي
وكم مددت شارةوكَم جددْتُ قَارةًوكَم ردَدْتُ غارة
روْمَ الثَّنا بِمخْذَمي
وكم قَطَعتُ مَنْشِماًوكم وصلتُ مَبْسماًوكم سَبَقْتُ منسما
حُبَّ السَّنا بمنسِمي
وكَمْ حللتُ حانةًوكم قتلْتُ عانةًوكَمْ فَلَلْتُ بانةً
لسَرحيَ المسوَّم
وكم نظمتُ المُلحَاوكم لثمتُ القَدحاوكم عذلتُ من صحا
عذل العذول المُبْرم
وكم حسيس رعتهوكم خسيسٍ عبتُهُوكمْ نفيس بعتهُ
في الأهيفِ المُنعَّم
وكم خلال خُنْتُهاوذِمَّةٍ أخفرْتُهاوخِدمةٍ أظهرْتُها
لخدهِ المُعَنْدَم
وكم سحيق ساقنيوكم رشيق شاقنيوكم عقيق عاقني
عن زورةِ ابنِ أدهِم
وكم صبيح صَادنيوكم مُليح عادنيوكم مَليح قادني
لحُبِّهِ المُتيَّم
وكم نَصيب صَابنيوكم مَعيب عابَنيوكم مهيب هابني
للفِظَى المنظِّمِ
وكم سَجَرتُ من طغىبشدَّتِي لمّا بغىوكم سحرت من صغى
لوعظِيَ المُعظَّم
وكم قطعتُ من سَعَىلمحفلٍ لما ادَّعىوكم أجبت من دعا
لجفنَة ومَطْعَم
وكم ختلتُ مَنْ عَدابحيلَتي لما اعتَدَاوكم قهرت من غدا
يبغي الوغَى بأدهَمي
وكم آثرتُ مكسباًوكم سبرت سبسباًوكم عذرت من سبا
كاسَ السّلافِ المُضرم
وكم جذمتَ مَنصبابمَنصِبي ومُنْصِبَاوكم خذمت من صبا
إلى خِبا المخدَّم
وكم رحلتُ مركَباوكم أسلتُ مُنَكِباوكم أشلت من كبا
بكفِّي المُكَرَّم
وكم تركتُ القَسِماإياكَ أغني القَسِمابورطتي المقاسما
ومكريَ المُهَيَّم
فلا تَلُمْ فصبيَتيمِنْ أمسِنا بزُبْيَتِيتطوي الحشا لغيبتي
طَيَّ القَميص المُعْلَم
قالَ الراوي: ثم إنَهُ زَهَرَ زهَرُ إبداعهِ، وبَهَر نَهَرُ اختراعهِ، ومَكُثَ عندي إلى ظُهورِ النَّجم، وانقضاض النَّجم للرَّجم، فلمّا احلولكتِ الدُّروبُ، وسُلَّ سيْفُ الغَسَق المَقُروبُ، طفَر كالنَّبْض الغزاليِّ، وخرجَ خُروجَ نغبِ الوَليِّ، فأوحشَ الأحامس، وشاكَهَ المتعامسَ، وامتطَى الطريقَ الطامسَ، واحتذَى النقيلَ الشامسَ، وألبسني الحظ العُكامسَ..
المقامةُ الثامنةُ والعشرون النَّصيبيّة
روَى القاسم بن جريالٍ، قالَ: منيت مدّة مُقاصاةِ المَعان، ومُعاصاةِ الظعَان بسَهمْ هَم راقٍ، وسمِّ سَدرِ أرَق مالَهُ من رَاق، حتَّى امتطيتُ أيانق الفَرَق، وانثنيت عن نَمارقِ السَّرَقِ، وذَهَلْتُ عن بِساط البِسَاطِ، وشُغْلِتُ عَنْ وَطء بِساطِ الانبساطِ، فلّما اَنفجر فَلقُ قَلَقِ القَلْب الشَّفونِ، وانهدمَ راسخُ أساس نُعاس الجُفونِ، جعلتُ أضطربُ لهذا الرَّثمْ الثائرِ، وأجتذبُ أسبابَ السَّقَم بأشاجع يَدِ الجسدَ البَائرِ، فبينما أنا أعالجُ بعَالج السَموم السُّمومَ، وأمارجُ بَمارج تلكَ الهَموم الهُمومَ، إذْ خَطَرَ بخاطري المكدودِ، خِلٌّ خَال منْ قَرَن قرينهِ المَقدود، فحملني وعكة المللِ، وصَكة الغللِ، عَلى أنْ أطعَنَ درئةَ الحَنادس، بسنانِ الطلبِ المُداعس، وأظعنَ إلى أنْسِهِ الموانِس، لإماطةِ سرابيلِ الوَساوس، فصحِبْتُ وَصيفاً يُوجزُ بإسهابِ وَصْفِهِ الواصِفُ، ويعجِزُ عن إدراكهِ ريحُ المَراوح القاصِفُ، ولما ركعتُ لأبوابهِ، وأطعْتُ الأملَ في إيقاظِ بوّابهِ، تلقَّاني ببِشْرٍ شُموسهُ مشرقَة، وبِرٍّ كؤوسُهُ مُفْهِقة، وجَعَلَ يُذاكرني بنفائس أسمارهِ، ويُذكرُني محاسنَ سُمّارهِ، ثم قالَ لي بعدَ زاخرِ مُحادثاتهِ، وأواخرِ مُنافثاتهِ: أنَّى زهدتَ في دمشق ورُتْبتِها، والرُّبْوةِ ونُزهتِها، فهل لكَ في مُعاودةِ ورَيفِها، ومراجعةِ زَخاريفِها، وأنا لأوديةِ أوبتِكَ مَسِيْلٌ، ولوَجهِ وجْهَتِكَ خَدُّ أسيلٌ، وبِما يمونُكَ كَفيلٌ، واللهُ على ما نقولُ وكيلُ، وحينَ أدبرتْ كتائبُ الغَسَق وأقبلَتْ قبائلُ الشَّفَق، اتخذنا زاداً وبَكراً، وأموناً لبِكر بِكرينِ بِكرا فلم نزلْ نمتطي مَطَاهُما ونجتلي خرائدَ خُطاهُما، إلى أن امتطينا طنافسَ المربِّينَ، وورَدْنا ماءَ مَدَيْن نصيبين، وكنتُ سمِعتُ بطيب هِرماسها، وشَرَفِ ناسيها وباسِها، فقلتُ لهُ: أتحِب بأن نخيم بقبالها، لنُنظرَ ما وراء نقابها، ونصيف بعراصها، لنبصر ما تحت نصيف عفاصها، فأهنى المبرَّةِ أرْوجهُا، وأسنى المسرَّة سجْسُجها، وإذا اقترن عسيب المصيف، بعزة هشيم الخريف، وسَخَن باردُماء الخُفور، وبردَ بارد حر الحرور، نجذب عُثنون أموننِا، ونركَبُ متون رزوننِا، فقالَ لَي: يا بنَ جريال إياك والتعرُّضَ لهدم الحياةِ، ومَعْدِنِ الحُميّاتِ، فَلا تغرَّنَّكَ تلافيفُ الخضرِ، وحفيف الشَّجَر، وتصنيفُ الثمرِ، فماؤها سُمومٌ، وهواؤها مسموم، وظلّها يَحموم وجلها محمومٌ، واعتبِرْ بغزارةِ الأرْماس، ولا تنظر إلى نضارةِ الهِرماس، وهل هي عندَ ذي الفِكر الفَتيقِ، والراكبِ غاربَ وَهْم فهمهِ والفنيق، إلاّ كزينةِ الحُروبِ، وزنة زلازلِ الكُروب، وقد كنتُ أقمتُ بها حِيناً كافحتُ به الأينَ والوينَ، واخترتُ على ذلكَ الحِينِ الحَينَ، لما كابدتُهُ من منادمةِ الشدَّةِ، ومصادمة السُّدة، ومصاحبةِ العُدَّةِ، ومكافحةِ الرّعْدةِ، ولو لم أمنحْ بالإباقِ نفسي، لحللتُ غِبَّ حلولها رَمسي، فخرجْتُ منها وقد انقدَّ قلبي الوَجِلُ، وانهدَّ صبري الزَّجل، وأنا أرتجلُ: الوافر.
نصيبي من نصيبين افتكارُ ... شديدٌ شَابهُ شَظَفٌ كبارُ
فنوص مذْ سكنتُ بها سَليب ... كأنّ وسادتي إبَرٌ ونارُ
فلّما أنْ حللْتُ بها وخَدِّي ... نقي كالعَقيقِ لَهُ احمرارُ
تبَدّلَ بعدَ حمرتهِ بورس ... يلوحُ لناظري منهُ اصفرارُ
فزالَ الوَرْدُ من وَجْهي وولَّى ... ووُلّي بعدَهُ فيهِ البَهارُ
فلولا أنْ عَزَمْتُ على انتزاح ... سريع كادَ يعلوني البَوارُ
فقلت له: إني لأحب لَسَّ هذي المحالفةِ، وسَلِّ لسانِ هذهِ المخالفةِ، فقال لي: قد فوضت زمام المحالفة إليك، وقوضت خيام هذه المخالفة لعينيك، فتقلدت عقود منته، ونسيت نقود مئنته، ولم أزلْ اتخذ المَرَحَ شعاراً، ويتّخذُ نحافةً واستشعاراً، إلى أن استولتِ الرِّبْعُ على أعضائهِ، وعدم الحركةِ بعد مواضي قضبِ مَضائهِ، وحين رز عياؤهُ، وعَز فيها دواؤهُ، خَرَجْتُ أطلبُ طبيباً يُوصَفُ بتقادم المعرفة، ويُعرفُ بمعرفةِ تَقدمة المعرَفة، ولمّا وصلتُ إليه، ونشرت عُروض الأدب لديه، قلت له: إنّ لي صاحباً حاله كذي كذى، وقد أشرفَ به على الأذى،َ فجود التبحر لإصلاَحهِ، وجردِ التردُّدَ لتحصيلِ صَلاحهِ، فإنّه من ذوي النّخَبِ، والخفرِ المُنتَخبِ، فقال لي: تاللهِ لا رفعتُ لَهُ دوَاءً، ولا دفعتُ عن جسدهِ داءً، لأنني لَم أزل أسألُ الله أنْ يقَيِّضَ لي إتيان الغَريبِ، لأبيِّضَ وجهَ حالِ امحالهِ الغِربيبِ، إلى أن قدم عليَّ شيخٌ أشكلُ المقلتينِ، دون القُلَّتينِ، يعتمِدُ على عجوز شمطاءَ، كذئبة ملطاءَ، فدلفَ دَلفةَ مُنخفِض، ووقفَ وقفةَ منقَبض، وقالَ: الرجزَ.
يا أوحدَ العصر ويا نور المُقَلْ ... ويا طبيباً طِبُّهُ فاقَ الأوَلْ
ارحمْ مُسِنّاً ساءهُ سُوْءُ السَّبَلْ ... وظلَّ يكبو في الوَرى مِنَ القَزَلْ
فذاك أولى ما صنعتَ مِنْ عملْ ... وذاك أسنَى ما ادَّخرتَ للأجلْ
فقلت له: ارفعْ رِداءَكَ، لأنظر داءَكَ، وأرني سبَلَكَ لأدرأ ما مَلْملكَ، فحَينَ حامَ حَولي، وقعد لديَّ، ألفيتُهُ كالسَّبَل وليسَ بالسَّبَلِ، وكالقزَل وليس بالقَزَل، فقلتُ لهُ تاللهِ لقد أعضلَ عِلاجُ أذاكَ، فما سببُ ذاكَ، وأشكلَ مرضاكَ، فما رِضاكَ، فقالَ لي: ألِمِّ بك برهةً يسيرةً، ونُبذةً حقيرةً فإنْ فشلَ شَرّهما شكرْتُكَ، وإن اعظوظمَ ضرُّهمِا عذرتُكَ، ثم إنّهُ أقبل يُبكرُ في كلِّ يوم إليَّ، وينثرُ من نثرهِ كلَّ فريدةٍ عليَّ، حتى قبصَ لُبِّي بأنامِل نَباهته، وقَنص قلبي ببراثنِ بداهتهِ، فلما رأى حُسْنَ إعدادِ ذاك الوِدادِ، وتحَقّقَ شدّةَ اشتدادِ ذلك الاستبدادِ، قالَ لي: هل لكَ في أنْ تُدخلَني الحمَّامَ، فقد شاهدتُ لِحمَم القشفِ الحِمَامَ، فقلتُ لهُ: لا بأسَ بما قلتَ، وحُلْت في صهوة صوابِه وجُلْتَ، فحينَ باينَ الدَّرِنَ، وعاينَ حالَهَ الحسنَ، خرجَ لاستبرادِ ريحهِ، واستنشاقِ نسيم فَسيحهِ، فأيطأ حتّى ناوحتْني الحُرَقُ، وكادَ يُربقُني بالغرَقُ، فخرجتُ وقد ابتزَّ بزَّةَ المُنّةِ مِنّي، فرأيتُ قد لبسَ ثيابي عَني فندمْتُ على عُلالَة ما صنعتُهُ، ولَعَلاَةِ هذهِ العِلّةِ منعتُ مَنْ منعتُه، قال الراوي:
فلما رَثَيتُ لما نَالَهُ، وأثريتُ بقلقِ ما قالَه، أيقنتُ أنّها حبائلُ أبي نصرٍ ومضارُبهُ، ومخائلُهُ ومخالبُهُ، فقلتُ لَهُ: وجدت أخيذتَكَ من غير خِداج، ورددتُ سليبتك بألطف رواجٍ، ما الذي تصنعُ بَعَليلي، ومَنْ عظمُ إلَى بُرئهِ غليلي، فقالَ: أمرُج إليهُ على سبوحي ببوحِي، وأسرج له في كلِّ يوم مروحي بروحِي، قال: فاحتملتُ إبالة منَ الكبريتِ وجعَلتُ أسَيرُ سير الخِرِّيتِ، لتحصيل العفريتِ النِّفريتِ، إلى أن ألفيتُهُ مَتبهنساً بأسواقِها، متبختراً بين جُدْرِ المخاتلة ورواقها، تهز عِطفَهُ نشوِةُ الرحيقِ، وتبُزّ قلبَ طبيبهِ جحافِلُ الحريقِ، فنفحتهُ بنسيم السَّلام، ووددت أنْ أوُدعَهُ بطونَ السّلام، وقلتُ لهُ: إلامَ تهزأ بالذّكورةِ والمِكَسال، وتَدعسُ بمِدْعسُ مكركَ العَسَّالِ، وتنازلُ فِرَقَ الرِّعَال وتقابلُ ذوي الفَعالِ، بقبائح الفِعالِ، فأفٍّ لمن عذَرَكَ وعذرك، فما أغدَرك وأثبتَ غَدَرك، فقالَ لي: لِمْ ترجُمني بجنادل مقاذعتِكَ، وتَزحُمني بحَمَةِ مُقادِعتكَ فقلت: لاستلابِ ثيابِ مِعْوانِكَ، واجتلاب جيوش عَوانِكَ إلى أعوانِكَ، وكيف لا ولي خِلٌ أمين ألوفٌ، لا يعادِلهُ مثل ولا ألوف، وقد أشرفَ على التَّلَفِ، وأسرفَ في لِباس الأسَفِ، وقد آلى مَنْ خُنتَهُ واستلبتَ سرابيلَه وامتهنتَهُ ألاّ يجودَ بدوائهِ، أو تجود بردِّ قُمصهِ وردائِهِ، فقال لي: تاللهِ لقد سألتَ أيسرَ متيسِّرٍ، وحاولتَ فتحَ بابِ أملٍ غيرِ متعسِّرٍ، فامض معي إلى الخَانِ، لأشهِدَ عليكَ بقَبْضِها بعضَ الإخوانِ، فسرتُ معَه إلى خانِ معروفٍ بالأدناس، محفَوفِ بأجناس الأنجاس، فتركني ببابهِ وولَجَ، ثم مرجَ هُنيَّةً وخرج، وقد امتطَى حماراً أخشب كفنيقٍ أغلبَ، وخلفَهُ رجلٌ أطولُ من طالوتَ وأنذل من جالوت، فمالَ أبو نصر إلى سِرّاً، وحدَثني مستسراً، وقالَ، اعلمْ أنَّ صاحبي قد ضَللَ مفتاحنا بالسوق، وأنا مغِذٌّ إليهِ كالماء المدفوقِ، فتحدّثا إلى أنْ أعودَ، ولا تسأما القعودَ، ثم إنَهُ شمَّصَ حمارهُ ومر، واستقبل سبيلَ انسيابهِ واستمرَّ، قال القاسمُ بنُ جريال: فأخذتُ أحدِّثُهُ فازدلف وانحرفَ بحمارهِ وانصرفَ، وفاخرَ بما بمثلهِ يُفاخرُ، إذ كلٌّ منا يظنُّ أنَّ صاحَبُه الآخر، فقلتُ لَهُ: بعَدَ ما جَلَتْ جموع الصِّبْرِ الأريض، وانجلت الجَوْنةُ في حلة الإحريض إني لأظنُ أنْ قد قارنَ قريتُكَ الخَيبةَ، أو المفتاح عندَ بني شيبة، فقال لي: ما هذا النّباح، ومَن صاحبي والمفتاحُ، ويلكَ أيكونُ خدينَكَ، ويبيت قرينَكَ، وتنسُبُ صحبتَه إليَّ، أتحسبُ أن يَتَمِّ مُكركما عليَّ، وقد كفتُ حينَ ماس بأكهبهِ، وهاسَ بأغلبهِ، لالتماس أهَبهِ، قادراً على إطفاءِ لهَبهِ، وردِّهِ على عقبه ثم جذب بردني إلي وإلى المظالم، وأنا في صورةِ المظلوم والظالم، فقال الوالي: ذروه بمخيس المخاصمات، فقد ضاقَ الوقتُ عن المناسمات، ورد الظلامات، وفي غد أذيقه النَّكالَ الواصِبَ، والوَبالَ اللازِبَ، قال: فلّما حضرتُ دارَ الولايةِ، وشهرَ مُخاصمي مشْرَفيَّ الشكايةِ، سللْتُ حسام حكايةِ الطبيبِ، ونثلتُ ما بينَ ذيلِ ذَنَبِ القضيةِ والسَّبيبٍ، فتبّسَم الوالي تبسُّمَ المتعجب، ونَظر إلى جلسائهِ نظرَ المُعجِّبِ، ثم قال لي: قد غفرتُ فظيعَ هفوتِكَ، وسترتُ شنيعَ فوهتِكَ توجعاً لآفتِكَ، وإكراماً لعينِ معرِفتك، فأدِّ إليه ثمنَ الحمارِ، واجتنبْ بعدَها معاشرَة المِغْوار، قال: فوزنتُ الثمنَ، وخزنتُ الغَبَنَ، وعُدْتُ إلى المريض فوجدتُه قد درج، وفي مَلاءةِ المنيّةِ قد اندرجَ، فاغتذيت بِصابه وصابي، وبكيتُ على مُصابه ومُصابي، ثم لم يزلْ أهلُها عليَّ يعطفون، ولمحنَتي يتعطَّفون، وبالتّحَفِ إليَّ يَجْرُونَ، حتى ركبتُ طريقَ جَيرونَ.
المقامةُ التاسعةُ والعشرون الإسكندريَّة الخَيفاء
حكَى القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: لم أزل مذ جلَّتْ مآربي، وتجلَّتْ تَجاربي، وفازَ ساربي، وحسُنت مَساربي، وطرَّ شاربي، وذرَّ قمرُ مشاربي، أمارجُ الأظغانَ، ومنْ نضب وعان، وأمازُج الرِّهانَ، ومن عَظُمَ وهانَ، وانكّبُ عن الآنس، وانقبُ عن المؤانس والتفّ بالمُلاحف، واشتفُّ قَرْقَفَ المواقفِ، إلى أنْ قطفتُ ثمارَ التجاريبِ، وعرفتُ خصائصَ الخالص والضريبِ، فلم أحظَ بمَنْ يَصونُ، ولم أظفرْ بخليلٍ لا يخونُ، خصوصاً المصريُّ ذو المكائدِ الواقصة، والحبائل القانصة، الذي جبذَ المصاعبَ بإرسانها، وذلَّلَ نفوسَ شوس المعاركِ وفرسانها، وأبادَ الجُثَّم في جبالها، واقتادَ أبالسةَ المُوالسةِ في جبالها، ولما قذفني بحجرِ غدرٍ رزين، وضربَني بعَصَا إحَنِه حيناً بعد حين، أشرفت منه على سحائب الإستحاءِ، ولقيتُ من تلقائهِ قبائلَ البُرحاءِ، فحينَ مُنيتُ بوخْز صَعْدةِ صُداعه، ولُسعْتُ بإبَرِ قلب برقع خداعه، نبذته نبذ ترابِ المجْنوزِ، خشيه وخيم مَكرَه المكنوزِ، معَ ما كنتُ أودِعه من أسرارِ الإجتنان، وأُتحفُهُ بملاحف الإمتنان، وأساعده بعساكر الاآدِ، وأشاهدُهُ بالعَشيِّ والأرآدِ، وأحامي عنهُ بمضاربِ الحُسام، مُحاماةَ الطبائع عن الأجسام، وأطرِفه بلطائفِ الطيباتِ، وأكتنفهُ اكتنافَ المُلتحمَ الرُّطوباتِ، وأرتوي بمفاكهته لدى الجُلوس وأحتوي عليه احتواءَ المعِدةِ على الكَيْلوس، واضطربُ لاضطرابه اضطرابَ النابض، وألجُ إليه ولوج الحلاوة بطونَ المرابض، وأصاحبُ كلَّ منْ يَنويه، وأجانبُ وداد نِدِّه ومناويه، وأحتملُ لعدم مَنْ يساويه، أعباء عظم مساويه: الطويل:
وكنتُ أواسي الناسَ فيما أسيمه ... منَ السَّمْع في أنفاسه وأُنافسُ
فلمّا سَمَا في سُلّم السُّوءِ سالكا ... خسيسَ سراطٍ يحتذيه المجالسُ
حَسَمْتُ بسَيْفِ اليأس أسبابَ سِلمه ... كما حَسَمَتْ قبلي الرؤوسُ الأحامسُ
ولما اشرأب لشراب بغيه وباح، واستباح من حرم مصاحبتي ما استباح، وطبق كر نكره البطاح، وطبق بحسام سفهه عنق المعاهدة فطاح، آليتُ ألاَّ أميلِ لقرن قربه المقاتل، حتىَ يشارك المرض جُرْح القاتل، وتُهْدَرَ ديَةُ وَرَم غَرْز الإبر في المَقاتلِ، فبينا أنا أترنحُ في سكك الإسكندريةِ، وأتبختر تبخترَ القروم العبدريّة، ألفيتُه على فرس أشهبَ، وقد راش المَعاش سهامَ حاله وأسهبَ، وحَوْل صافنه السِّلاحُ، وتِلْوَ علندائه العبدان الملاح، فحين أبصرني وأبصرته، ونصرني صوبَ صيِّب بصرَه ونصرتُهُ، نكصتُ منْ مَكره الوَحفِ، نكوصَ الخارج من الزَّحْفِ، مخافةَ أن يسجرَ قلبي بحرارة بيانِه، أو يسحرَ لُبِّي بطِيْبِ نَضَارة لَيانه، فلما لمحَ نِفاري، وحقَّق عدم قراري، وقفلتُ إلى مُناخي: بعدَ طولِ التراخي، سَمِعْتُ صوتَ قارع، حَسَنِ التلطُّفِ بارعٍ، فأذِنتُ لَهُ بالمُثولِ، فدخلَ فتى أحلَى من اللؤلؤ المنثولِ، فوقفَ وسلَّمَ، وأحسن إذ تكلمّ، ثم إنّهُ وضعَ لديَّ طَبَقاً مشحونَاً بهدايا لطيفة، ظاهرةِ المزايا وريفةٍ، مشفوعاً برُقعةٍ مَطْويَّة، تُسْفِرُ عَنْ محاسنِ طَويَّةٍ، فأشلْتُ الطينَ، وفتحتُ المَطين، فإذا هي من ذي الفضلِ الوَضيّ، أبي نصر المصريِّ، مُشتملة على رسالةٍ خيفاءَ ناصعةِ البراعةِ وطفاءَ، تتضمن نثّ كثر إعراضي، وتطاولَ طُوال قطيعتي وارتكاضي، وما يكافحُ من قواضبِ القلقِ والصِّعادِ، وتباريح ريح إرعاد الإبعادِ، وهي:
المملوكُ فيّضَ اللهُ ... نُخَبَ حلْمِكَ، يبُثُّ هَمِّا
يَجُثُّ، لَهَمّاً يُغِثُّ، طَبعا ... يضبًّ، وصَدْراً يَذُبّ،
ودَلاً يَبُز، ووصْلاً يفِزّ، ... وحَرْداً يُذَبِّ، وحَرَداً
يُشَذِّبُ، وصدّاً يَغينُ، ... ووُداً يبين، ودهراً يَضَنُّ،
وسحْراً يَشُنُّ، وعللاً تَخُبُّ، ... ومَلَلاً يَجبُّ، مَع
شين كَدَرٍ ذَفَّفَ، وسَهَرٍ جَفَّ ... فَ، وإعمال يُخَضْخض، وآمالٍ
تقضقضُ، وأهوال تُنضنض ... وأعوال، يُغَضغضُ، وسُهاد
جنن ومهاد خنن وسواد جَنَّب، ومراد تجنّبَ، وملال
قذذ ومآلٍ جَذَّذَ، وحَسَدٍ فَتَّتَ، ولَدَدٍ شَتتَ، وحَسودٍ بغض
وودودٍ نَغَضَ، وسَموم خُبْثِ ألم نَفَخَ، وسَموم ضَبثِ
سدمٍ، نضخَ، وهو ضيفُ داركِ، ضيفنُ سَحِّ غَيْثِ
مدرارك، نظيفُ عودِ فنَنِ العهودِ، يُزْجى لكَ فَيْضَ ودادٍ
بَيَّنَ، وحلَلَ قَشيبِ ولاءً زَيَّنَ، والمسؤولُ في سؤددكَ، بت طِوَلَ
شغبٍ أوعدَ، فَفَضَّ وطُول نَغَبٍ أرعدَ، وسُلْوٍّ بخَبَبِ
مكروهٍ شَنَّفَ، ومُعادٍ بشنْفِ سَماع قَيْظِ صدُودِكَ تشنَّفَ، لأسرح
بخضِب إلمام فَتِيٍّ، وأمرَحَ في دَوْح تيقُّظِ صُلح جَنِي،
أمدَّكَ بِضُبَى وَصْلٍ نقيٍّ، وعَدْلٍ فَضِيِّ، وإحكام يَتَقَنَّنُ،
وأحكام تتفنَّنُ، وسعودٍ تضيءُ، ووعودٍ تَجيءُ، وحَوْلٍ ينيفُ،
وطولٍ يَزيفُ، وحِلْم يَبُذُّ، وحُكم يَجُذُّ، ومراس يُشيبُ،
ورَأسُ نشب كَرَم يَشُبُّ، وَلا يَشيبُ والسَّلام.
قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فلمّا وقفتُ على مكاتبته، ورشفْتُ شَمول معاتبته، بكيتُ لكآبتِه ورثيْتُ لانصباب صبابتهِ، ثم ملْتُ إلى السَّلم، لعلمي أنّ الغَضبَ غولُ الحلِم وقلتُ: تالله لا أكونُ مِمَّنْ يلابسُ الأضغانَ، ولو ستر الظَّفَرُ وجهَ عَفْوهِ وغان، لأنَّ قلبَ الحليم ينقادُ، ولا تَحُلُّ بيتَ قلبه الأحقاد، ثم إنِّي نهضتُ معَ الوَصيفِ، بعدَ هَدْم أسِّ الصَّخَبِ والرَّصيفِ وجعلتُ أوجِفُ إيجافَ المشوقِ إلى لِقاءِ المعشوقِ، وأركضُ ركضَ الظليم، إلى لِيم إلمامه المُليم، فحين تحقّقَ انسرابي، وتيقَّنَ مقاطعةَ قرابي، بادَر مبادرَةَ الحريص، وسُرَ سرورَ يعقوبَ حين رُدّ بصرُه بالقميص، ثُمَّ قال لي: يا بنَ جريالِ لا يعيشُ في الخَلِّ، إلاّ دودُهُ، ومعَ الخِلِّ إلا وَدودُه، فاغتفر هذه النَّوبة، واعلم بأن التوبة تمحو الحَوْبةَ، ثم إنّه قَطَنَ في التَّلطُّف وأصعدَ، وأخذ بجمْع أرداني وأنشدَ: الطويل:
أجلُّ سنا ساميك أن يَنْقُضَ العَهدا ... وأنْ تُصحِبَ الأصحابَ مِنْ صَوبك الصَّدَّا
وأنْ تَحسِمَ الإحسانَ والحمدَ والحيا ... وأنْ تمنَحَ الأحبابَ مَعْ حِلمِكَ الحِقْدا
فليس رئيسُ الناس مَنْ سُل سلْمُهُ ... وليسَ سَنيُّ السرِّ منْ أنُسى الوُدا
وليسَ شريفُ الشأو منَ شفَّ شِفّهُ ... وليسَ نقيّ العِرْض مَن ضَيّعَ العَهْدَا
فإنْ أنتَ لم تغفِرْ وإنْ أنتَ لم تجُدْ ... كفاكَ بأنْ تُمسي حليفَ القِلى فَرْدا
قال: ولمّا رعيتُ ضَرَبَ قَريضهِ، وأوعيتُ دُرَرَ تَعْريضِه، ورأيتُ خَليّةَ خلابته، حدْتُ عن حرّةْ الحَرَد ولابته، ولَمْ أزلْ عندَهُ إلى أنْ توسَّدَ زَنْدَه، فانسللتُ إلى عريني، وقد افعوعَمَ منْ ثَمَرِ مُنافثته جريني، فصرمتُ جذوع الإقامةِ، وهدمْتُ ربوعَ المقامةِ، وقاطعتُ السّكنَ، وفارقت مَنْ سَكنَ، وودعت من عدن، وطِرْتُ بجناح الإقالة إلى عدن.
المقامة الثلاثون الآمديّة
حدَّث القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: زمَّني زِمامُ الزمنِ الزَّنيم، يومَ نَوْم جَفْنِ الأشَرِ النَّويم، بعدَ إسعافِ العديم، وانعطافِ الخِدْن القديم، ومُناسمةِ الرسيم، ومُساعفةِ نسيم الوسيم، بألم مرضٍ ممدودِ المعارج، مسدودِ المناهج، فلمّا عزَّني رعيلُ ذلكَ الإعلالِ، وهزَّني ذميلُ ذيَّالكَ الإذلالِ، وبتُّ بينَ غُرئْبةٍ قاتمةِ الإضرار، وعُزْبَةٍ قائمةِ الإصرار، جعلتُ أخبُّ في بيداء داءَ الدَّنفِ، وأعُبُّ من ماءَ دأماءَ ذيَّاكَ الجَنَفِ، حتى عُدْتُ بعدَ لُبْس سِربالِ السُّعودِ، وامتطاءَ سناسن سَعْدِ السُّعود أنادم الأمراض وأصادم بجؤجؤ الجزع جآجيء العرض العراض الطويل:
وأجني بجسم قَلّبَ السقمُ قَلبَه ... ملابسَ بؤس سابغاتِ الغَلائل
تردّ عيونَ النّاظرينَ ضروبها ... إذا انبجستْ من غَور غَمْر الغوائل
فلمّا تجرى صبْرُ قلبي المكسور، تجزّى ضربِ الكسورِ في الكسور، وتضاعفَ هَمِّي لمفارقة الصِّحاح، تضاعفَ ضَربِ الصحاح في الصحاح، قصدتُ آمدَ بعدَما اجتديتُ الجامدَ، واجتبيتْ الحامدَ، وامتريْتُ الثاقب والخامدَ، عَل أن أجدَ لعُرام هذه الغاية معوانا، أو لغَرام غُلب هته الغابة أعوانا، فحين ألقيتُ بها هِراوتيَ، وألفيتُ البلدَ موافقاً لإعادة غَراوتي، حُدِّثت بطبيب دَرأ برداء الدِّرايةِ أعراضها وتدثَرَ أَثباج جُلِّ التَّجاربِ وراضَها، فأرسلت غلامي إليهِ، لأقُصِّ قَصصَ علّتي عليه فلم يكن إلا كنَشقةِ ناشق، أو شدة باشق راشقَ حتى أذنتُ له في الدخولِ، على الجَسَدِ الدارج المدخولِ، فحين قعدَ بازائي، واستحلسَ مَعْزائي، واحتملَ ذراعي، وجعلَ سنن الأدب يُراعي، ألفيتهُ شيخَنا المصريَّ ساحرَ الألبابِ، والساخرَ باللّبابِ فقلتُ لَهُ: إلامَ تَنهبُ الأذهانَ، وتمارسُ ما صَعُبَ وهانَ، وتُخْرجُ السُّبّحَ مع حركاتِها، وتُزعجُ الجُثّمَ في وُكناتها، فقال لي: خلني من شَظَفِ ظَرافتك، واشتغلْ عنِّي بفَيْض ضَفَفِ آفتك، وإنَي لراج أنْ أعالجَكَ وتُبلّ، واكتسبُ من ثَنائِكَ الحِل البلَّ، ثم إنَّهُ شرع لرفع شُرُع الأعلالِ وشرْبِ حَمْأَة طينة ذاكَ الخَبالِ فزالَ عني بجودة علاجه، ومداومة انعياجه، ما أعاني منَ المَرَض ومصاعبِ العَرض، ولم يزل مدَّة ذاكَ المُقام، والرُّسوبِ في سيب ذَلِكَ السَقام، ينشُرُ حُسْن حُزونه والسهولِ، ويَطوي الطمعَ عن وطنِ همتي المأهولِ، إلى أنْ غابَ عنِّي في يوم عظيم الزَّمهرير، وافر نباح الأهويةِ والهريرِ، فجعلتُ أكابِدُ لغيبتهِ ما أُكابِدُ، حتّى ضاقَتْ عليَّ بسَعَةِ أرجائها آمدُ، كُنَّا نستعينُ في ذلك السَّقَم، ومقاتلةِ قَنابلِ النِّقَم بجارٍ جميلِ اللّقَم، جَميلِ اللقم، يسعِفُنا بيواقيتِ افتنانه، ويَشغَفُنا بانهمارِ ماءِ امتنانه، فدفَع البابَ، ورجَّعَ الانتحابَ، فقصَدَ وصيفي الوصيَدَ، ليستعلم بأيِّ نقودِ صُروفِ الصُّروفِ صِيدَ، فلمّا جثَم لديَّ، وعطَّر بمجاورة أرجِهِ برْدَيّ، قلتُ لهُ: ما الذي أبكاك، وسكبَ كأسَ أذاك فأذكاكَ، فقال: اعلم أنَّ طبيبكَ الطَّمطامَ، وصارمَ صولتِكَ الصَّمصامِ، وردَ إليَّ في هذا اليوم، قبل إشالةِ فُرُش النوم وموجُ عبْرتِه يترقرقُ، وفوْجُ زَفْرته يتدفَّقُ، وجيوشُ أفكارهِ تتراكمُ، وأحبوشُ أحزانهِ تتزاحمُ، وقال لي: يا دواءَ الجُرْح الجائف، ورداءَ الحَرِجِ الخائفِ، أعلِمُكَ أنَّ خليلي، ومَنْ كانَ في الجَلَل خليلي، وبه يشتدُّ قِيلي، وإليه في الشدائد مَقبلي، قد دَرَجَ وفي شُعوبَ شعوبَ قد مَرَجَ، وما فتئَ مكفوفاً بإكرامك، محفوفاً بحللِ احترامك، وقد جئتُكَ قبل أن ينقرِضَ الجديدان، وتقرُضَ أديمَهُ مقارضُ الدِّيدانِ، فتخلَّقْ بأخلاقِ عبدِ المَدان، في هذا الميدان، وأنا أساعِدُ بما عليهِ أقوى، بعدَ ما اندرسَ رَسْمُ سَعْدهِ وأقوى، فساعِدْ بما بهِ تنهضُ وتَقْوى، وتعاونُوا على البرِّ والتقوى: الطويل:
فإنك ركنٌ يركَنُ الناسُ كلُهمْ ... إلى حالقٍ مِنْ حَولهِ غير حائرِ
رفيع منيعٍ حَيَّرَ الشّمَّ شأوه ... عزيزٍ حريزٍ جابرٍ غَيْر جائِر
فقلتُ لَهُ: ما الذي تريدُهُ، لينقادَ لكَ ليتُ الأرب ووريدُهُ، فقالَ: اعلم أنَّ مَحْتدَ هذا المسكين، ما برِحَ حميدَ التمكينِ، وسيعَ البقاع، رفيعَ اليفاع، وارفَ الجودِ، مُنْجدَ، المنجود فهل يسمح إحسانُك الذي لم نَزَلْ نرتجيه، بعارية خَلَق ملاءة يسجّيه، وتتوخى مواردَ توخيهِ، فإنَّ اللهَ في عَونِ العبدِ ما دامَ العبدُ في عَوْنِ أخيه، قال: فنبذتُ لَهُ ثوباً من أنفس الملابسِ، لم يتدنَّسْ بممارسةِ المُلابس، مشفوعاً بدينارينِ، لرِقَةِ رقَّةِ قولِه الليَّنِ، فتناولَهُم وصَرَفَ، وتصرَّفَ فيهما وانصرف، قال القاسم بنُ جريال: فحينَ عُمْتُ فيما شرحَهُ، وقُمْتُ على قَدَم معرفةِ ما استشرحتُهُ طَرقْتُ حَلْقَةَ النَّدم، وأطرقْتُ نحو القَدَم، ثم نهضتُ أخوضُ أقطارَهَا، وأعالجُ أمطارَهَا، وأرومُ قَطْعَ سككها وأقومُ على دكادك دِككها، إلى أنْ وجدتُهُ بالسوقِ، نَزيفاً في سرابيلِ الفُسوق، يتحرَّكُ من نَشوةِ المُدام، تَحَرُّكَ الغُصُن تحتَ تغريدِ الحَمام، فهممْتُ بأنْ أجُضَّ عليهِ بِحُسام العتابِ، وأنقضَّ إليهِ بسنانِ السِّبابِ، فغمدتُ مِخْذَمَ الصَّخَبِ، وعَدَلْتُ عن مَهْيَع اللَّعِبِ، وقُلْتُ له: هكذا تكونُ شِنشنةُ المكاشرينَ، أم هكذى تُمْطِرُ شآبيب المعاشرينَ، فقبضَ كفِّي وانقبضَ، وأعرضَ بعارضِه وامتعض، وقال لي: أتخالُني مِمَّنْ يَنْصِبُ لصديقه الحبالاتٍ، ويقرنُ أضغاثَ ضبثِ خداعه بالإبالات، أو يُمعِنُ في عِبادةِ لاتِ هذهِ الخُزَعْبلاتِ، أف لَقُبْح نِيَّتِكَ، وخبثِ طويَّتك، وغَثاثةِ مناسمتك، ورثاثةِ مُنافستك، فأقبلتُ أخدعُهُ، وأودُّ لَوْ خَدَعَ أَخْدَعُهُ، ثم قلتُ لهُ: ما حمَلَك على أخذِ ذَيْنِكَ، فأَرِحْني من مساورةِ مَيْنِكَ، وإن شِئتَ فاركبْ سبيلَ بينِكَ، وقُلْ: هذا فراق بيني وبينك قال: اعلم أنَّه وردَ عليَّ صديقٌ أودُّهُ غايةَ الودادِ، وأعدُّهُ للنّوَب الشداد، وأجلُهُ إجلالَ الأفراد، وأحِلُّهُ مَحِلَّ النكتةِ من الفؤادِ، ولم يحَضرْني ما أحضر إليه، وأمطِرُ من عَنانِ المعونةِ عليهِ، ففعلتُ ما صدرَ إليكَ إدلالاً عليكَ، وقد رهنتُهُ عندَ خَمّارٍ، على نِصْفِ دينارٍ، مِنْ ثَمَنِ مصطارٍ، وفي غدٍ يَصِلُ إلى دارِكَ، وينفصِلُ غَم جارِكَ، قال الراوي: وكنتُ لا أملك من ثَمَنِ خَمْرهِ، معْ ما اصطليتُ من حرارةِ جَمرهِ، وأغضيتُ على مَضَضِ المرض وعُسرهِ، سوى ثلاثة أمثال تُسعهِ وعُشرِهِ، فألقيتُ إليه عمامتي، وأيقنتُ قُبْحَ مُنقلبِ مَقامتي، وقلتُ له: اتركها عِوَضاً عمَّا رهنْتَ، واستُر قبيحَ ما استحسنتَ، وهَزيلَ ما استسمنتَ، ثُمَّ سِرْتُ معهُ بعدَ قَذْفِ الجِمارِ، وكَشْفِ قِناع الخَفَرِ والخِمارِ، وتَذَكُّر وقعةِ الحمار، إلى مسكنِ الخَمَّارِ، ولما مِلت إليه ميل القانط وشممت ريح الأحمر الحانط، قال لي: إنِّي لأظنَّكَ تعافُ أريجَ هذا الألنجوج، وتَخافُ مريج خَيْلِ هذي المُروج، فاحذر مجاورةَ هذا الأنام، واحرس سُورَ نفسِك من تسلق الأثام، واحفظْ عرضَكَ مَدَى الأيام، ولا تخامرْ خمرة هذا الإيام. وإن كنتَ تَخشى أن أجمعَ لكَ بهذه الحيلةِ، بين الحَشفِ وسوءِ الكيلة، فسارعْ إلى استرجاع العمامةِ، وأرحني من سحوح مِننِ هذه الغمامة، ثم إنه وقفني بباب الحانةِ، وألبسني جلابيبَ الإهانة، فلمّاَ طلع ناب